الصحفي كمال قرور لاسبوعية المحقق

  • قلت لمحمد الصّالح يحياوي: أنت لا تملك الشجاعة الأدبيةlei263
  • أخشى أن تتراجع لجنة مالك حدّاد عن منحي الجائزةَ!
  • من قال إن كمال قرور كاتب روائي؟، هكذا تساءل عدد غير قليل ممّن يعرفونه مغامرا إعلاميا فقط ، ومن قال إنه إعلامي له تجاربُ تمتزج فيها روح الجرأة بروح التحدّي؟، هكذا تساءل أيضا بعض من علم بذلك بعد حصوله على جائزة مالك حداد للرواية في طبعتها لعام 2008 ، وأمام هذه “اللخبطة” التي تكتنف حياته الأدبية والإعلامية، ارتأيت أن أقف معه في هذا الحوار الصّريح، عند أهمّ مفاصل تجربته في عالم الصحافة، التي كأنها أخذت تسمية “مهنة المتاعب” من  حجم معاناته وخيباته فيها.
  • قبل جائزة مالك حدّاد، كان الكثيرون يرون فيك إعلاميا فقط، وبعدها بات الكثيرون يرون فيك كاتبا فقط، كيف تتعامل مع هذا التوزّع؟
  •  
  • كنت أهتمّ بالأدب، خاصّة القصّة القصيرة منذ الثمانينيات، ولأنني لم أجدْ في كلّ ما كتبت نضجا كبيرا، فقد أحرقته كلّه، ودخلت عالم الصّحافة بدون رصيد أدبي.
  • ومتى عدت للكتابة الأدبية إذن؟
  • في الـ 2002 ، حيث صرت أكتب باستمرار، دون أن أحصيَ أو أعرف طبيعة ما أكتب.
  • بمعنى أنك لا تملك مشروعا إبداعيا واضح المعالم؟ 
  • بل قل إنني كنت مشتتا بين التوجّه الفكري في الكتابة، والتوجّه الأدبي.
  • فانتصرتَ للتوجّه الثاني؟ 
  • في بداية العودة ركّزت على التوجّه الفكري، فكتبتُ “الكتاب الأزرق/ الدّولة الرّاعية والمواطن الفعّال”، ومجموعة من المقالات نشرتها في الخير والشروق.
  • ماذا تعني بالكتاب الأزرق؟
  • طرحت فيه فكرت التعاقد بين الحاكم والمحكوم، التي جاء بها هوبز وروسو، إسقاطا على الواقع الجزائري، والزرقة التي حملها العنوان، إحالة على لون السّماء، كفضاء وسيع غير مملوك من طرف الأقلية، عكس الأرض التي رُهنتْ وتفرّق ترابها في الزمَر، وإذا راعينا فلسفة الألوان، فإننا نجد الأزرق لونا يتميز بالمنطقية والعقلانية والنشاط وقلة الثرثرة، وهي القيم التي علينا أن نتحلّى بها في استعادة الأرض، بعدها عادت إليَّ الرغبة في الكتابة الأدبية، فكتبت روايتي “الترّاس” الحائزة على جائزة مالك حداد، ومجموعة قصصية عنوانها “رجل لا يجيء”، وأخرى بعنوان ” الشعوب التعيسة في الجمهوريات البئيسة”.
  • ألا ترى أنّ هذا العنوان الأخير كلاسيكيٌّ ومقرف؟
  • تماما…، لكنني راهنتُ على هذا، لأن المجموعة كانت محاولة مني لكتابة القرف، الذي بات مواطنا جزائريا بامتياز.
  • دع الأديب فيك يمارس قرفَه الشهيَّ جانبا، وعرّجْ بنا على “دودة” الإعلام، متى ظهرت للوجود؟
  • ما بين سنتي 1986 و1987 ، حيث كنت طالبا بجامعة قسنطينة، طبعا مع إرهاصات سابقة في الثانوية، فباشرت جملة من الحوارات في يومية “النصر” التي كانت حينا عنوانا كبيرا.
  • من حاورتَ؟
  • مثلا الناقد المسرحي الدكتور رشيد بوشعير، وهنا أشير إلى أنّ بعضها كان يُنشر في الصّفحة الأخيرة على أهمّيتها، مع مجموعة من المقالات الثقافية.
  • مثلا
  • مثل مقال كان ردّا على الشاعر الظاهرة عبد الله بوخالفة رحمه الله، ناقشت فيه دعوتَه للشعراء الجزائريين إلى توظيف الفلسفة في نصوصهم، وأصارحك بأنني اكتشفت بعد سنوات كوني لم أكن منتبها لعمق الفتى، كان انتحاره خسارة للمشهد الأدبي الجزائري، ولا أقول للشعر فقط، وإنما للرّواية أيضا، إذ كثيرا ما فاتحني برغبته في كتابة الرّواية.
  • هل كنت موظّفا في “النصر”، أم مجردَ متعاون؟
  • بل كنت متعاونا فقط، وحين فُتح المجال للتوظيف في ماي 1989 ، لم يوظفوني رغم أنهم وعدوني بذلك، فصدمت وفكرت في الالتحاق بالخدمة العسكرية، لكنني أجلت الأمر.
  • هل أدّيت الخدمة العسكرية بعدها؟
  • راهنت على التأجيل حتى أكرموني بالإعفاء عام 2000 ، حين بلغت من العمر أربعا وثلاثين سنة، ولا تندهش إذا قلت لك إنني أشعر اليوم بالنقص حين أسمع أصدقائي يتحدّثون عن ذكرياتهم في الخدمة الوطنية.
  • هل ستلتحق بالجيش لو أتيحت لك الفرصة اليوم؟
  • للحياة العسكرية نكهتها التي قد تغذيني بنصوص، تختلف عن النصوص التي غذتني بها نكهة الحياة المدنية.
  • هل كانت صدمة “النصر” هي الصدمة الإعلامية الأولى في حياتك؟
  • بل الثالثة…
  • كيف؟
  • كانت الصدمة الأولى من التلفزيون، ما بين 1986 و1987 ، حيث كان من المنتظر أن أنشّط حصّة “سين ـ جيم” بعد مغادرة منشطها كمال علواني إلى العاصمة، لكن ذاك “المنتظر”، أصبح ملغى.
  • لماذا؟
  • أعطوني فرصة أسبوع لاختيار اللباس الذي أظهر به، وحين عودتي، قال لي المخرج إنهم استغنوا عن خدماتي، واختاروا فتاة جاءت لتشارك في “ألحان وشباب”.
  • والصّدمة الثانية؟
  • بعد فشلي في الالتحاق بمحطة قسنطينة للتلفزيون، شاركت أنا وصديقي مراد بوكرزازة في تجربة صوتية للالتحاق بإذاعة سيرتا الجهوية، وبما أنهم كانوا بحاجة إلى صوت واحد فقط، فقد اختاروا مراد، واعتذروا لي أنا، لكنها كانت أخفّ الصدمات علي، لأن نجاح بوكرزازة، شكّل لي عزاء.
  • بالمناسبة: ما رأيك في التجربة التي خاضها مؤخرا في الكاميرا الخفية؟
  • تمنيت من أعماق قلبي، لو أنه لم يتورّطْ  في تجربة فاشلة كتلك، بعد فتوحاته الإذاعية منذ اختاروه عوضي كما حدثتك.
  • هل هذه الصّدمات المتوالية، هي التي مهّدت لانتقالك إلى العاصمة عام 1990؟
  • من قبلُ لم أفكر إطلاقا في دخول العاصمة، كانت قسنطينة تسحرني، وفيها ذكريات دراستي الجامعية وحبّي، لكن طموحي كان أولى من المكان، فكان علي أن أحمل حقيبتي وأرحل [ ينفجر ضاحكا فجأة ]: بل لم تكن لي حقيبة أصلا.
  • لماذا دخلت “آلجي”؟
  • كان طموح والدي أن أصبح معلما بعد أداء واجب الخدمة الوطنية، لكنني كنت دوما أفضل جنون الصّحافة، معتقدا أن العاصمة تمكّنني من الالتحاق بجريدة ما، وهنا عليك أن تدرك أن ذلك كان صعبا جدا في تك المرحلة، إذ لم تكن هناك إلا “الشعب” و”المساء” و”النصر” التي خلفتها في الشرق، وعلى الصحافيين اليوم أن يحمدوا الله على التعددية الإعلامية، إذ يمكنهم أن يعملوا في أكثر من عنوان، رغم ذلك عاهدت نفسي بألا أعود من حيث أتيت.
  • أين كنت تقيم، وممّ كنت تقتات؟
  • بخصوص القوت لا أذكر ما كنت آكل لقلته، أما المبيت فأغتنم الفرصة لأشكر إحدى منظفات الحيّ الجامعي حيدرة وسط، التي كانت تعطيني مفتاح مقصورتها حيث تضع أدوات التنظيف، كانت مقصورة بدون مصباح أصلا، وضيّقة لا تسعني أنا طويلَ القامة كما ترى.
  • هل وجودك في الحيّ الجامعي هو الذي ألهمك فكرة التسجيل في الماجستير؟
  • كان التسجيل شرطا ضروريا للحصول على غرفة، فالتحقت بمعهد علوم الإعلام والاتصال، بعد نجاحي في المسابقة، وفي هذه الفترة بالذات طردت من مقصورة المنظفة، مع تماطل الإدارة في تسليمي غرفة رغم أنني بتّ طالبا في الدّراسات العليا.
  • كيف تصرّفت؟
  • كنت صديقا لمحمد قرّوش صاحب العديد من الجرائد اليوم، مع ذكر أنه لم يكن كذلك في تلك الأيام، كان مجرّدَ طالب غني بطموحه فقط، فعرض علي مشاركته غرفته في الحيّ الجامعي.
  • هل درستَ في الماجستير بجدّية، أم أنك سجّلت فقط، لتحلّ مشكل السّكن؟
  • في البداية كان حلّ مشكلة السكن هو الهدف، لكن بعد مباشرة الدّراسة تغيّرت نوايايَ، فانخرطت في الدّراسة بجدّية، حتى أنمّي موهبتي الإعلامية، خاصّة بعد اكتشافي لنظرية ماكلوهان.
  • من هم الأساتذة الذين شكّلوا وعيَك الإعلاميَّ الجديد؟
  • الدّكتور عبد الرّحمن عزّي ـ الدّكتور إحدادن ـ العراقي خالد سلام ـ السّوري عزّت عجاّن ـ الأستاذ ابراهيم براهيمي، خاصّة الدّكتور عزّي.
  • لماذا هو بالذات؟
  • لأنّه كان أكثرَ من أستاذ يُعطي المعلومات، بل مفكّرا في مجال الإعلام، وللأسف الشديد فقد خسرته الجزائر، بهجرته إلى ماليزيا، وهنا أشير إلى أنه كان المُشْرفَ عليّ في الماجستير، وبهجرته توقف المشروع.
  • ألم تناقش لحد الآن؟
  • نعم…، إذ طلبت من الدّكتور محمّد قيراط أن يشرف عليّ بدل الدّكتور عزّي، فوافق لكنه هو الآخر لم يمكث إلا قليلا، وهاجر إلى الإمارات العربية.
  • وكان موضوع الرسالة؟
  • آليات الصّراع الفكري عند مالك بن نبي.
  • فالتحقتَ بمجلّة “الوحدة” عام 1990
  • كان صديقي علاوة شواطي واحدا من أسرة تحريرها، فاقترح علي الالتحاق بها، وحين قابلت مديرها الأستاذ على ذراع قال لي: إن المجلة لا تتوفر على منصب مالي، فقلت له إنني مستعد للعمل مجانا ريثما يتوفر منصب مالي جديد، فقبل بذلك.
  • وهل جاء ذاك المنصب المالي؟
  • بعد نصف سنة، وهنا انتقل علي ذراع إلى “المساء”، وجاء صالح شكيرو مكانَه.
  • ما كنت تكتب في الوحدة؟
  • حوارات ـ تحقيقات وتغطيات لأحداث ثقافية وسياسية.
  • ما هو أهمّ شيء كتبته في رأيك؟
  • بل قل أطرف ما كتبته؟
  • هاتها 
  • كتبت مقالا صغيرا عنوانه: “الإنسان حيوان يخلص”، أي يتقاضى راتبا، وكان ذلك بسبب العَوَز، إذ قلت لك إنني كنت أعمل في البداية مجّانا، مع تأخر المنحة الجامعية، الأمر الذي حتّم علي “القارنطيطة” ليلا ونهارا، حتى صرت أراني حيوانا لا يأكل إلا شيئا واحدا، واستدعاني رئيس التحرير يومها عبد الله بشيم، فصارحته بوضعي، وكان كريما معي حين أمر المتصرّف المالي للمجلة بأن يصرف لي مبلغا ماليا، كان أول مقابل مادي أتقاضاه على جهودي.
  • ولمْ تطلْ فرحتك بالتوظيف في المجلّة حتى سرّحوك، كيف حصل ذلك؟
  • قمنا باحتجاج تضامنا منا مع عمال المطبعة.
  • من أنتم؟
  • أنا ـ علاوة شوّاطي ـ صادق جردي ـ اسماعيل بصباص ـ الحاج دحمان وعباس بومامي.
  • وما دخلكم أنتم في عمال المطبعة؟
  • من تدخل فيما لا يعنيه، وقع له ما لا يرضيه.
  • هل حصلتم على تعويض ما؟
  • لا طبعا…، وهنا دعني أدلي بشاهدة حق في صالح شكيرو، حيث نصحنا محبة فينا، بترك الاحتجاج، لأنه حماقة ستعرقل مستقبلنا، لكننا لم نأخذ بنصيحته، والغريب يا صديقي، أن عمال المطبعة عادوا إلى عملهم بمجرد طردنا، دون أن يقولوا لنا كلمة شكر واحدة.
  • يبدوا أن الجوع قدَرٌ وقع في غرامك يا كمال.
  • قاومته في البداية ببعض المال الذي كنت أحصل عليه من تدريسي لمقياس تحليل النصوص، كأستاذ متعاون بمعهد علوم الإعلام والاتصال، وهو أمر لم يدمْ طويلا، لأنني تخليت عن المنصب، بسبب حالة نفسية انتابتني، بعد أن أخبرتني الطبيبة بأنني مصاب بمرض القلب، فقرّرت أن أعود إلى العلمة وأموت بين أهلي.
  • [ وهنا قاطعنا الفنان المسرحي العراقي فاضل عبّاس، بهذه الأقوال دفعة واحدة، بعد أن استمع إلينا في بعض الحوار/ “قال جبران: يكفي القتيلَ شرفا، أنه ليس القاتل، وقال طاغور: إذا لم يكن أمامك سوى الوقوف على الجمرة، فلا بدّ أن تفتعل الحلم لتقول إنها باردة، وقال غاندي: تعلمت من الحسين بن علي، كيف أكون مظلوما وأنتصر”، ثم حمل محفظته وغاب.]
  • لكنك لم تمتْ لحدّ الآن يا سيزيف
  • كان سيزيف دائما في خيالي، لكثرة صعودي وهبوطي من جديد، لكنني كنت دائما أعتبر نفسي أفضلَ منه، لأنه أسطورة وخيال، بينما أنا واقع من دم يفور بالإرادة. 
  • والدّليل أنّك لم تيأسْ، فأسّست دارا للنشر في العلمة سنة 1993، حدّثنا عن التجربة
  • دار النشر كانت واحدة من أحلامي، بالإضافة إلى الصّحافة، فاستثمرت فراغي في العلمة، بعد خروجي من العاصمة، في بعث ذالك الحلم، كان الأمر يبدو مستحيلا بالنظر إلى الظروف الأمنية التي طبعت المرحلة، فكان أول إصدار للدار: رسائل حب، وهو عبارة عن كتاب يضمّ رسائلَ عاطفية، كتبه العربي حاج صحراوي.
  • أشتمّ رائحة النزعة التجارية من العنوان
  • لم يكن الدافع ماديا، وإنما خروج عن روح المرحلة التي طبعها الموت والحقد الأعمى، لكنني اصطدمت بالواقع الأصولي، بحيث رفضت المكتبات توزيعَه، فبقي مكدّسا، وهو المصير نفسه الذي لقيته العناوين الأخرى، مثل الديوان الأول للشاعر عاشور فني “زهرة الدنيا” وقاموس “تعلم الألمانية”.
  • ثم اختفت الدار فجأة مثلما ظهرت
  • مخلفة كوارثَ من الدّيون، بسبب جهلي لعالم النشر والمنطق التجاري، معجونا بالظرف الأمني القاسي.
  • هل اعتقدت بعد هذا الكمّ الهائل من الخيبات، أنك منحوس؟
  • أقسم إن ذلك حصل، وقد واجهني بها أبي مرة فبكيت.
  • واللاّفت للدهشة، أن ذلك لم يزدْك إلا إصرارا، حيث أطلقتَ عام 1997 أسبوعية “أبراج”
  • كان صديقي حكيم ولد خالد “هو الآن في أمريكا”، يملك اعتمادا لجريدة متوقفة بالعنوان ذاته، فاقترح علي بعثها، وبينما نحن نتجاذب أطراف الفكرة، دخل علينا عبد الحق عطا الله، فأصبحنا شركاءَ في المشروع الذي أوكلت إلي مهمّة تسييره.
  • كانت ذات توجّه اجتماعي وفني، وتصدر من سطيف، حدّث القارئ عنها قليلا
  • كانت انطلاقتها جيّدة، بحيث لقيت رواجا عند القراء، ولكن فجأة بدأت تظهر مشاكلُ بين عطا الله وحكيم ولد خالد.
  • ما طبيعة تلك المشاكل؟
  • لست أدري بالضبط، كل ما في الأمر أن ولد خالد اقترح عليّ إقصاء عطا الله، ففضلت التريث حتى اكتشفت فيما بعد أنّ عطا الله كان يستغلّ وسائل الجريدة ليلا في إعداد جريدته الرّياضية “نجوم الملاعب” بعد أن نغادر نحن المقر، مع عمله الخفي على تحطيم “أبراج”.
  • وهو الشريك فيها؟
  • نعم وهو الشريك.
  • فكيف كان مصيرها إذن؟
  • التوقف طبعا.
  • كم ربحت وكم خسرت ماديا؟
  • أنا لا أعرف الرّبح، أنا أخسر فقط، ألم نتفق على أنني منحوس؟.
  • لكن الذي يعتقد كونَه منحوسا لا يصرّ هذا الإصرار كلَّه
  • هذا هو الاستثناء مع كمال قرور، لا يتعب أبدا من أن يواجه البحر بصنارته، بعد كل غرق.
  • وأين رميت صنارتك بعد “أبراج”؟
  • رميتها في أسبوعية جديدة سمّيتها “الوسيط”، كانت ذات توجه اقتصادي وتجاري، تعمل على لعب دور الوساطة بين المستهلك والمنتجين، ولأن السّوق الجزائرية غامضة، ولا تعرف ثقافة الإشهار، فقد فشلنا في المرحلة الأولى.
  • هذا يعني أن هناك مرحلة أكثر خصبا
  • بل أكثر قحطا.
  • فاجأتني بهذه المفارقة
  • عدنا إلى التوجه الاجتماعي والفني، الذي كنا قد جرّبناه في “أبراج”.
  • بالمناسبة: ما رأيك في المسمّاة “صحافة صفراء”؟
  • هي حساسية إعلامية موجودة في العالم كلّه، تعتمد على الفضائح الموثقة بالصّورة والأدلّة المادية، غير أنها في الجزائر تعتمد على الإشاعة والتهم الباطلة في كثير من الأحيان.
  • وما هي الفلسفة التي اعتمدتموها في المرحلة الثانية من “الوسيط”؟
  • اعتماد الأسلوب الخفيف والمشوّق، لكنّ القرّاء لم يتجاوبوا معنا.
  • إلى درجة أنكم كنتم تكتبون بالدّارجة
  • توقعا منا بأنها مطلوبة من القرّاء.
  • هنا لا تستطيع أن تنفي لي نزعتك المادية
  • كانت نيتي أن أحافظ على توازن الجريدة.
  • ولو على حساب المبادئ الإعلامية والثقافية؟
  • كان حضور الدّارجة في الجريدة جماليا.
  • وإلى أين وصل بك ذلك “الجمال”؟
  • إلى الخراب طبعا.
  • كيف؟
  • أفلست والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
  • تستحق عن جدارة لقب “سيزيف الإعلام الجزائري”، لذلك سيتوقع القارئ مسبقا، أنك بعد انحدار صخرة “الوسيط”، ستحمل صخرة أخرى
  • كانت تلك الصّخرة الجديدة تحمل عنوان “فانتازيا”، والتي تميزتْ عن سابقاتها بأنها سقطت على رأسي هذه المرة، كانت اجتماعية وساخرة.
  • ولم تتبْ عن استعمال الدّارجة فيها، إذ كنت أنت شخصيا تكتب بها ركنك الشهير “طاق على من طاق”
  • كانت الانطلاقة جيدة، لكن التوزيع طرح نفسه كمشكلة عويصة، ثم ظهرت معه مشكلة الطبع، إذ كنا نطبع في “الإنيب” بالعاصمة بكل ارتياح، وحين تحوّلنا إلى مطبعة قسنطينة لأنها قريبة من سطيف، وقعت الكارثة، إذ كانت معظم النسخ تطلع مشوهة، ففقدت الجريدة جماليتها.
  • هل يرجع ذلك إلى محدودية إمكانيات المطبعة، أم إلى عرقلة مبيّتة “في رأيك الخاص”؟
  • أرجّح الاحتمال الثاني.
  • أوضحْ
  • الدليل أن العناوين الأخرى كانت تطلع بعيدة عن التشوّه.
  • كيف تصرّفت؟
  • لم أتصرف، إذ توقفت الجريدة بقرار إداري، بعد مقال كتبته خارج القانون، وقد حكموا علي بستة أشهر سجنا غير نافذ، مع مراقبة دامت خمسَ سنوات.
  • وبذلك كانت آخرَ محاولة لك في عالم “الصّحف السيارة”، هل هو اليأس؟
  • بل هو التعب، أنا لم أيأس بعد.
  • إذن لنا أن نتوقع أن ترفع الصّخرة من جديد
  • لن أفعلها
  • هو اليأس إذن وليس التعبَ كما قلت؟
  • سمّه كما شئت.
  • ما هي طبيعة الأقلام التي كانت تكتب في جرائد؟
  • لم تكن هناك أقلام محترفة، وربما هذا واحد من أسباب الفشل.
  • هل كانت فيها أقلام معروفة اليوم؟
  • الخير شوّار، كان اكتشافا كبيرا، وهو اليوم في نظري من أهم الأدباء والإعلاميين الشباب.
  • يقال إنك هضمت الحقوق المادية لكثير منهم
  • ليعذرني من أصابه شيء من ذلك، فحتى أنا لم أجن شيئا.
  • على ضوء هذا كلّه يحقّ لي أن أستنتج أنّ النجاح الوحيد الذي جنيته، هو جائزة مالك حداد
  • أخشى أن تتلااجع اللجنة عن قرار منحيها الجائزة لي [ يقهقه ].
  • سمعت بأنك كتبت مقالا أرسلته إلى يومية معروفة، فرفضتْ نشرَه بحجة كونه “خطيرا”، فاتخذت منه نواة لكتابك “خواطر الحمار النوميدي”
  • هذا صحيح…، كان عبارة عن بيان يدين الوضع السياسي والاجتماعي، ويقف موقفا إيجابيا من فكرة المصالحة التي كانت مرفوضة في البداية، فلما رفضت تلك الجريدة نشرَه، جاءتني فكرة تحويله إلى كتاب صدر عن منشورات السّنة العربية في الجزائر.
  • ما هو الموقف الذي ترى أنك استعملت فيه “شجاعتك” كاملة، في كلّ مسارك الإعلامي؟
  • ذهبت إلى برج بوعريريج لتغطية حدث ما، عندما كنت في “الوحدة” مع بداية التسعينيات، وهناك التقيت بحضرة السيد محمّد الصالح يحياوي ذكره الله بخير، فقلت له: أنا من جيل الاستقلال، وأريد أن تحدثني قليلا عن بعض الحقائق، فقال لي: إن هناك حقائقَ تذهب مع أصحابها إلى القبر، وبعفويتي قلت له: إذن أنت لا تملك الشجاعة الأدبية، فغضب غضبة لم أرَ إنسانا غضبها في حياتي، وصاح في وجهي: إذا كنت شجاعا فعلا، فاكتب ما أقول لك، وقال لي أمورا شكلت خبطة إعلامية، تناقلتها معظم العناوين في تلك الأيام.
  • طال حوارنا يا صاحب “الترّاس”، ولك أن تجعل له مخرجا حسنا
  • لقد روّضت هذا الفشلَ مثلما روّضني، فتعايشنا حتى صرنا نأكل وننام معا، وهذا القلم الذي كاد أن يدخلني في عالم النسيان، ها هو ذاته يعيدني إلى الذاكرة، أيّها الكتاب: لا تفقدوا ثقتكم في القلم.